دراسة الأولى من نوعها: "الأرض والصراع في المنطقة العربية"

الأولى من نوعها: "الأرض والصراع في المنطقة العربية"
دراسة أعدتها العربية لحماية الطبيعة

أنجزت الجمعية العربية لحماية الطبيعة دراسة حول الأرض والنزاع في المنطقة العربية ضمن "مبادرة الأراضي العربية" بمساهمة من الشبكة العربية للسيادة على الغذاء. وتقدّم هذه الدراسة التي تعد الأولى من نوعها رؤية الجمعية لمسألة الأرض والصراع في المنطقة العربية، أسباب إجراء هذه الدراسة للربط بين الصراع والأرض، وتحديد الأسباب البنيوية للصراع بدلاً من التعاطي مع تجليات هذا الصراع، إضافة لتشكيل صور محلية حقيقية للصراعات بالاعتماد على المعرفة المباشرة من الخبراء والمجتمعات المحلية صاحبة العلاقة.


أما أهم ما يميز هذه الدراسة، تصنيفها للعلاقة التي تربط بين الأرض والصراع بوصفها مؤثر فيه ومتأثرة به، وفق منهجية اعتمدت على تحليل 12 دراسة حالة، تغطي قضايا متعددة المستويات: محلية (قرية، مجتمع)، مناطقية (محافظة)، وطنية (دولة)، أو إقليمية ودولية (النزاعات العابرة للحدود). أما البلدان التي تناولتها الدراسة فصنفت لبلدان الصراع قائم فيها على كون الأرض سبب الصراع كما في المغرب، وليبيا، والجزائر، وتونس، ولبنان، ومصر، وفلسطين. الشق الثاني من التصنيف فتناولت أن البلدان التي أثر فيها الصراع على الأرض كما في لبنان، واليمن، وسوريا.


وبشكل أعمق تم تصنيف العلاقة بين الأراضي والصراع في المنطقة العربية إلى فئتين: الأولى قضايا الأراضي كسبب جذري للصراع، كما في الاستعمار على أنواعه، وتغيير العلاقات في حيازة الأراضي الزراعية بسبب الاضطرابات في عالم الرعاة والمزارعين المستقرين المرتبطة باختراق رأس المال، والتغيرات في قيمة الأرض التي فقدت تقييمها الإنتاجي وأصبحت قيمتها سلعية معزولة عن ناتجها أو طبيعة أصحابها، ما أدى لصراعات ناشئة عن تهميش وحرمان أصحاب الحيازات الصغيرة، إضافة لنزع ملكية الفقراء بسبب التوسع الحضري. يضاف لذلك الصراعات المرتبطة بعدم المساواة في توزيع الأراضي والاستثمارات المتعلقة بها.
وفي الفئة الثانية في العلاقة بين الأراضي والصراع، حيث تظهر آثار الصراع على الأرض، من خلال الأضرار التي لحقت بالقدرة الإنتاجية للأرض وسبل العيش المرتبطة بها، وفقدان حقوق السكن والملكية، ما أدى إلى ظهور أو عودة ظهور الصراعات المحلية الثانوية على الأرض بين السكان أو الأطراف الخارجية إلى جانب الصراع الأساسي.


وانتقدت المديرة العامة للعربية لحماية الطبيعة طريقة التشخيص والتحليل السائدة لمشاكل الأرض في المنطقة العربية، وذلك بسبب حاجز اللغة بين المجتمعات المحلية والهيئات الأجنبية التي تهيمن على المشهد، والتوظيف الخاطئ الناتج عن الخلط ما بين المعنى الاصطلاحي، وبين المعنى الحرفي، إضافة للمعلومات الضحلة عن المجتمعات، مما يؤدي إلى اجتراح آليات وحلول قائمة على مظهر المشكلة وتحليها الخاطئ لا جوهرها وبالتالي تعميق وتشابك الصراع بشكل أكبر ونقله لمربعات جديدة.


أما عن تركيبة التغييرات البنيوية المحيطة بالصراعات المتعلقة بالأراضي، كشفت الدراسة عن تغيرات سياسية وبيئية واقتصادية كبيرة منذ نهاية القرن التاسع عشر والتي لا تزال تقود العلاقة بين الأرض والصراع لغاية اللحظة ويمكن تلخيصها بالاستعمار القديم والجديد على أشكاله بما فيه الاستعمار الاستيطاني- كما في فلسطين- والذي جاء كتدخلات عسكرية واقتصادية للسيطرة على الموارد الطبيعية. لكن التأثير لم يتوقف عند الاستعمار بشكله القديم، بل تعدى ذلك للمرحلة التي جاءت ما بعده وآثاره على مستقبل تلك البلاد "المستقلة".
من ناحية أخرى، تبين الدراسة أثر التوسع الحضري على أراضي مسجلة بوثائق ملكية عرفية (غير رسمية)، إضافة لتدمير الأراضي الريفية والزراعية، ودخول ثقافة الاستيراد باعتماد الأنظمة الرسمية منذ الاستعمار وما بعده على نهج الاقتصاد العالمي الجديد.
كما يؤثر النزوح على أمن الحيازة وملكية الأراضي لكل من النازحين والمجتمعات المضيفة بسبب سجلات الملكية غير الموثقة والمدمرة، وعدم الاتساق في النظام القانوني، والاحتيال وعمليات الإخلاء خارج نطاق القانون التي تتفاقم أثناء الصراعات.
عملت الدراسة، بشكل موضوعي وعلمي، على تفنيد الرواية السائدة عن الصراع والأرض في المنطقة العربية، إذ يتم التذرع بـ "الشريعة الإسلامية" كمصدر لقواعد عفا عليها الزمن لشرح النزاعات والظلم في حيازة الأراضي، في حين يمكن رد العديد من النزاعات المعاصرة حول الأراضي وتحليلها بسبب وجود أنظمة حيازة متعددة، وأحياناً متناقضة، لحيازة الأراضي. علاوة على ذلك، تتأثر أنظمة حيازة الأراضي في جميع أنحاء المنطقة العربية بالتشريعات الاستعمارية وما بعد الاستعمار التي صيغت على عادات وأعراف ما قبل الإسلام. ولا يمكن تجاوز فكرة تراكم الإصلاحات القانونية غير المكتملة على بقايا الترتيبات العرفية ما تسبب في خلق مناطق حيازة متضاربة. أكثر من ذلك بينت الجعجع في شرحها الاختلافات بين المجموعات العرقية التي هي في الواقع توترات أوجدتها المنافسة التي فرضتها المشاريع الرأسمالية.
وأشارت الدراسة في تفنيد الرواية السائدة عن الصراعات والأرض إلى أن تكثيف نظم الإنتاج المدفوعة برأس المال في البيئات الهشة أدى إلى إثارة الرعي والزراعة المستقرة ضد بعضهما البعض في صراع على الموارد الشحيحة، وهي منافسة تفاقمت بسبب تغير المناخ. في حين أن السرد العرقي، الذي روجته وسائل الإعلام الغربية، مفيد في حشد الدعم الفئوي المحلي والدولي، إلا أن الأدلة على وجودها في الصراعات بين الرعاة والمزارعين مثلاً واهية. ووضحت الجعجع أن الكثير من الصراعات على الأراضي تكون بين الجماعة ذاتها التي تشترك بالهوية الثقافية والعرقية وأحياناً القبلية، ولا أساس عرقي وطائفي لها.
لم تقف الدراسة التي استعرضتها الجعجع عند التشخيص والتحليل، بل طرحت آليات لأخذ القرار والتحرك، حيث عكست دراسات الحالة عدداً من الأدوات والعمليات البناءة من قبل مختلف الجهات الفاعلة لحل النزاعات والتخفيف من آثار النزاع على الأرض. ووجدت العربية لحماية الطبيعة خلال إعداد الدراسة، أنه في العديد من المواقف يتم تبني أدوات حل غير مناسبة (غير منهجية، وبطيئة، وغير مستدامة، وفي بعض الأحيان تؤدي إلى تفاقم الصراع)، وغالباً ما تفتقر إلى العناصر الأساسية للعدالة الانتقالية. ولا تشرك العديد من حلول هذه الصراعات الجهات الفاعلة الوطنية، فالسلوك الأجنبي يسبب الصراع أو يعيق الحل مع غياب منصات المصالحة المحلية. في الوقت ذاته تم إضعاف آليات التسوية التقليدية المحلية إلى جانب ترتيبات الحيازة العرفية السائدة في بعض الأماكن، والتي كانت حلولها ناجعة قبل استهدافها؛ أما ما بعد الاستعمار والتدخلات الخارجية لا يُنظر غالباً إلى الدولة أو الآليات التقليدية السابقة كحكم منصف من قبل جميع أطراف الصراع.


وفي نهاية العرض المكثف الذي قدمته العربية لحماية الطبيعة في الاجتماع، أوردت حزمة من التوصيات التي ركزت على الاستجابة للأسباب الجذرية للصراعات، متبوعة بالعوامل المساعدة والمشعلة لها، لا العكس، ومن أهم التوصيات التي طرحتها الجعجع تعزيز إدارة الأراضي بإصلاح السياسات والتشريعات والنظم التي تعترف بالأشكال التعددية للحيازة وإدارة الأراضي. إضافة لتعزيز المساواة في الوصول إلى الأراضي، وحماية سبل العيش الريفية والزراعية نحو السيادة الغذائية، واستحداث آليات للإنذار المبكر وحل وتجنب الصراعات.
وفي السياق ذاته، أوردت توصيات الدراسة أهمية دمج العدالة الانتقالية عند تطبيق وإيجاد حل للصراع ومعالجة نتائجه المتمثلة بعودة السكان لحيازاتهم، وبشكل رئيسي إنهاء الاستعمار الاستيطاني والاحتلال والتدخل العسكري الأجنبي، وتطبيق القانون الدولي لحماية الأفراد وحيازاتهم واستردادها. كما أوصت بضبط تأثير مشاريع الجهات المانحة والجهات الإنسانية والإنمائية في تأجيج الصراعات وإشعالها وذلك بتعزيز ملكية الدول لآليات اتخاذ القرارات الوطنية بوصف الأرض ملكاً للشعب الذي يحتاج للعودة والتعويض في حال التهجير وإلى إلى تقييم لاحتياجاته ما بعد الصراع مهما كانت أسبابه، إضافة لإعادة تأهيل أراضيه المدمرة والمهملة وإزالة الألغام منها في حال وجدت.


واختتمت الجعجع توصياتها بالدعوة إلى التكيف مع تغير المناخ وإدارة المياه، والعمل بشكل إقليمي تكاملي